الثلاثاء، 30 سبتمبر 2008
"فتح
الإسلام" وأخواتها
حسن ملاط، كاتب من لبنان
hassanmallat@hotmail.com
لقد كتب الكثير عن "فتح الاسلام" وخاصة في الآونة
الأخيرة، بعد أن تفجرت الأحداث المأسوية في الشمال عامة وفي مخيم "نهر
البارد" خصوصا. فلا يزال نزيف الأحداث قائما حتى كتابة هذه الأسطر. والمهم في
الأمر أن النتائج التي ترتبت عن هذه الأحداث تكاد تكون كارثية ان لم تكن كذلك
فعلا. فالعدد الكبير من القتلى الذي خلفته هذه الأحداث يفوق كل تصور. عدد كبير
أصاب الكثير من القرى والمدن وخاصة في طرابلس وعكار والمنية. وعندما نقول عكار و
المنية فمدلول هذا الكلام أن الخزان الفعلي الذي كان يرفد المقاومة الفلسطينية
تاريخيا كانت هذه المناطق. وأهل هذه المناطق هم من المحافظين، وارتباطهم بالدين
يجعل عداءهم للصهاينة والأمريكان أشد وأمضى. كما وأن ارتباطهم بالأفكار المناهضة
للظلم والظالمين هو أقوى. ولكن المصاب "الشخصي" الذي أصاب الكثير الكثير
من العائلات والقرى قد جعل الناس يعبرون وبشكل سلبي عن انغماس المخيم
(الفلسطينيين) في المعارك التي قتلت أولادهم. هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فالدمار
الكبير الذي أصاب المخيم يجعل من العودة إليه، على المدى المنظور، حلما يصعب
الحصول عليه. وهذا من النتائج الكارثية أيضا.
"فتح الإسلام" هي ظاهرة كباقي الظواهر الذي ينتجها
المجتمع. وكل ظاهرة اجتماعية لها دورة حياتية معينة. قد تطول أو تقصر تبعا للظروف
الذاتية والظروف المحيطة. فالظاهرة كأي كائن حي تولد، تكبر وتموت. وما يؤخر موت
ظاهرة ما، هو إمكانيتها على التعايش في المكان الذي تولد فيه. أي الظروف الملائمة
للحياة أو ما يمكن تسميته القدرة على التأقلم. كما وأن الظروف الملائمة وحدها لا
تكفي، بل يلزمها أيضا الاستعداد الذاتي للحياة والنمو عند الظاهرة ذاتها. فاذا
أخذنا مثالا ظاهرة "فتح الاسلام" نرى أن الظروف القائمة في بلادنا
ملائمة لنمو مثل هذه الظواهر؛ والدليل على ذلك أن هذه الظواهر تفرخ باستمرار
وموجود منها العديد على حد قول الجرائد والصحف الصادرة في بلادنا. فهناك العديد من
الخلايا في العديد من الأماكن وفي مختلف البلاد الموجود فيها عرب أو مسلمون. اذن
الظروف ملائمة لوجود مثل هذه الظواهر. ولكن في حال تمكن الجيش اللبناني من القضاء
على هؤلاء، نقول عندها أن الظروف الذاتية لهذه الظاهرة المحدودة هي التي لم تمكنها
من الاستمرار في الحياة بالرغم من ملاءمة الظروف المحيطة. كما وأن علينا التأكيد
أن القضاء على "فتح الاسلام" لا يعني بالضرورة عدم صدور ظواهر أخرى مشابهة،
وربما تكون أكثر وعيا، لأن ظروف بلادنا الموضوعية مؤاتية لنمو مثل هذه الظواهر.
لقد عرج الكثير من المفكرين الى دراسة هذه الظواهر التي
أسموها المجموعات الجهادية. وكان لهؤلاء آراء مختلفة. دعونا نطلع على بعض من هذه
الآراء علها تنير لنا الطريق الى فهم الظواهر المشابهة.
يقول عزمي عاشور، وهو باحث: نلحظ أن الواقع الحالي، وعلى رغم
مرور مئتي سنة من دخول النهضة الحديثة الى المجتمعات العربية، يشهد ما يشبه حالة
الطغيان والهيمنة لسلطة الفقيه والتي ازدادت خطورتها بظهور سلطة الفتوى لدى
الجماعات الراديكالية التي وجدت أرضا خصبة وأنصارا لها لتفرض سلطتها، ليس فقط على
تابعيها، وإنما على المجتمع والقوى الرسمية الموجودة فيه وكل ذلك تم على حساب
العقل والأنواع الأخرى للسلطة العلمية... وخصوصا إذا كانت الخبرة الاسلامية لم
تعدم هذه الأنواع في السابق، فقد ترك العلماء والفلاسفة المسلمون إبداعا إنسانيا
في مجالات الطب والفلسفة والفيزياء والرياضيات الخ... إلا أن وجه الغرابة يكمن في
أن على رغم أن العصر الحديث يتميز بسيطرة السلطة العلمية والمعرفية إلا أننا نجد
مجتمعاتنا على العكس طغت فيها في مقابل ذلك السلطة الدينية بتنويعاتها المختلفة والتي
تطورت ركائزها المختلفة المتمثلة في الفتوى وخرجت من مجال السلطة الفقهية
التقليدية الى ما يشبه العشوائية في صور جماعات أصولية متطرفة تستخدم الفتوى كسلطة
تواجه بها ليس السلطة السياسية الرسمية وإنما المجتمع نفسه (الحياة 9 -6- 07).
أما رضوان السيد، وهو باحث معروف، فيقول: إن الثوران الديني
السني ما كان مؤسسيا، أي أن الجمهور حتى المتدين ما سارع للانضواء تحت لوائه
لافتقاره الى الشرعية التقليدية أو المستجدة. ويضيف: وهكذا هام الثوران السني على
وجهه منذ السبعينيات، وانصرف للضربات العشوائية المدمرة ولكن التي لا تسقط أنظمة
ولا تقيم أخرى. ثم انقسم في الثمانينيات إلى متطرف ومعتدل، وظل الجزء الصغير
المتطرف حتى التسعينيات مفتقرا للقيادة حتى ظهر أسامة بن لادن، وظهرت
"القاعدة". وقد تمتعت "القاعدة" لوقت قصير بمركز الانطلاق، هو
أفغانستان. لكن النظام هناك ما كان نظامها ولا مثالها، وكما هو معروف، فان الهدف
الخيالي: هدف الجهاد العالمي، ضيع عليها ذلك المركز، ودمر المركز نفسه. وأضعفت
الهجمة الأمريكية الظاهرة الثورانية ذاتها، بل الأحرى القول أنها زادت من سعارها
وتسعيرها، لكنها ضربت القيادة ونظام الضبط والربط ضربة قاصمة، فعاد الأمر بعد 2002
الى ما كان عليه حتى العام 1996. لكن على أي حال، القيادة غير حاضرة، والهدف غير
محدد باستثناء الضرب حيث يتاح، والانتهاء انتحارا أو قتلا (الحياة 12 – 6- 07).
أما هلا رشيد أمون، وهي أستاذة جامعية فتقول متحدثة عن رؤية
الجماعات الجهادية: ولأن السلفية هي حركة دفاع عن صفاء العقيدة ضد آخرين، ينوون
تحريفها وتوظيفها في أشكال فكرية مغايرة لطبيعة الدين، فقد تحول كل من يخالف
طروحاتها وأهدافها ورسائلها إلى خصوم يرمون بشتى التهم التكفيرية. وقد اتسعت دائرة
هؤلاء الخصوم لتشمل القريب والبعيد، المسلم وغير المسلم، السني والشيعي، الليبرالي
واليساري والقومي والإسلامي المنفتح... أي أن أطروحتهم الساسية قد جعلتهم في حالة
عداء وكراهية وقطيعة وعزلة عن كل الناس، لا فرق في ذلك بين عربي وأعجمي. ولا شك في
أن نزعة التكفير قد خلقت الأساس الموضوعي للعنف والقتل والفرز العقائدي بين الناس،
الى جانب الفرز الموجود أصلا سياسيا واجتماعيا. فالناس إما كفار، أو مؤمنون، ولا
منزلة وسطى بين المنزلتين. والمسلم الحقيقي الصادق هو الذي ينتمي اليهم، ويؤيد
أفكارهم، أما ما عداه فهو كافر، يجب قتاله. ولا عجب بعد أن رأينا أن بعض هذه
الجماعات قد كفر بعضها (البعض) الآخر، فقط لأنهم مختلفون في المنهج والوسيلة وليس
في الدين والعقيدة.
تضيف: في هذه المنظومة الفكرية يتداخل السياسي والاجتماعي مع
المدني والأخلاقي، فالقيم والمقولات لا تقف عند الاطار النظري، بل تتعداها الى صلب
الممارسة العملية، لذلك يمكن القول أنه تم– من خلال ثنائية العقيدة والسياسة-
توظيف ما هو ديني ومقدس لأغراض سياسية ظرفية، وتم تسخير العقيدة كمبرر ايديولوجي،
لخدمة أهداف محددة ( جريدة النهار اللبنانية).
أما خليل العناني، وهو باحث في مركز الأهرام للدراسات
السياسية والإستراتيجية فيقول متحدثا عما يدفع بعض الشباب المنتمين للتيار السلفي
"التقليدي" الى السلفية الجهادية: اولا، تظهر معظم هذه التنظيمات للعلن
بشكل فجائي، وذلك بعد أن تتبنى القيام بعملية محددة جرى تنفيذها.
ثانيا، يجري التجنيد في هذه التنظيمات على مرحلتين، الأولى
عبر المنظومة السلفية "التقليدية" التي تستند في أدبياتها على الاقتداء
بالسلف الصالح والسير على نهجه بشكل "ماضوي" لا يستوعب تحولات الواقع
السوسيولوجي... أما المرحلة الثانية فهي التي يتم الانتقال فيها من الخمول الى
الحركة، ومن الفكر إلى الممارسة، ومن القول إلى الفعل، أي "الهجرة" من
المسجد الى الشارع...
ثالثا، يمثل المركب العمري لأعضاء مثل هذه التنظيمات علامة
استفهام كبيرة، بقدر ما يمثل أيضا تجسيدا للأزمة "الحضارية" التي تعيشها
الأمة العربية والإسلامية... يتراوح أعمار المنخرطين في صفوف هذه التنظيمات ما بين
العشرين عاما والثلاثين عاما (ينقص أو يزيد قليلا). ويكونون عادة "من خيرة
شباب البلاد أخلاقا وثقافة وسلوكا ومنهجا وكلهم من عائلات مرموقة في المجتمع".
رابعا، ... اليئة الحاضنة لظهور هذه التنظيمات وذلك على
مستوييها المحلي والإقليمي. فعلى المستوى المحلي تنطلق هذه التنظيمات من حال سخط
ورفض شديد للواقع الذي تعيشه بلدانها، في المجالين الديني والسياسي، أو ما بينهما.
أما المستوى الاقليمي (المرتبط بالدولي ممثلا في التدخل الأمريكي الخشن في
المنطقة) فيشكل أرضية صلبة تنطلق منها معظم هذه التنظيمات الجديدة.
وأما عزيز مشواط، وهو باحث سوسيولوجي مغربي، فيقول: وهكذا
تتحدد الأصولية الجديدة أو السلفية انطلاقا من عنصرين: نسخها الفقهي ونزعتها
الثقافية المعادية للغرب، انها رؤية صارمة وحرفية للرسالة القرآنية في صياغتها
الحنبلية... وكما تمت قراءتها حسب ابن تيمية... ولذلك فإنها تلجأ كلما عرض لها
عارض الى النص الديني (القرآن أو السنة) للإجابة عن أسئلة الحاضر وهكذا يصبح تفجير
برجي التجارة العالمية غزوة والتفجيرات عمليات جهادية في دار الكفار، انه سفر الى
الماضي بحثا عن أجوبة الحاضر alghad.dot.jo)).
يضيف عزيز مشواط: ترتبط معظم الحركات الفاعلة على الصعيد
الدولي حاليا بالفكر الوهابي حيث لعب السعوديون دورا أساسيا في نشر الأصولية
الجديدة فلكي ينزعوا من الحركة القومية العربية ومن الشيعة الإيرانية أو من
الشيوعية ما هم أحق به.
ثم يتحدث عن هذه المجموعات قائلا:
كلهم يتجاوزون الحدود الوطنية، انهم لا يعيشون في البلد الذي
ولدوا فيه بل لهم في بعض الأحيان جنسيات مختلفة.
كلهم قاموا بدراسات حديثة في الغالب من مستوى عال.
ينتمون في الغالب الى مستوى اجتماعي متوسط.
عاشوا مرحلة الشباب على النمط الغربي.
يعتبر عصر الرسول والصحابة بالنسبة لكافة السلفيات عصر
السلفيات ليس فقط للمسلمين ولكن للإنسانية جمعاء...
إن وضع وحدة الأمة في خطر يعتبر خطيئة لا يمكن التساهل معها.
ان الله وعد بالنصر وامتلاك الحقيقة فرقة من عباده والتاريخ
لا يمكن أن يخطىء هذه الحقيقة الالهية.
فحيث وجدت مصلحة الجماعة فثمة شرع الله (rezgar.com).
أما لماذا يلجأ بعضهم الى استعمال العنف المسلح والإرهاب. يرى
المفكر الاسلامي السوري محمد شحرور ما يلي:
السبب الأول: هو ضعف الطرح السياسي، والخلط بين السياسة
والكفر، والإسلام والإيمان، والتقوى والشعائر، والجهاد والعنف المسلح. ونسخ آية
الدعوة الى الله بالموعظة الحسنة بآية السيف، واعتماد الترادف في فهم النص مما
ينتج عنه أن القتل هو القتال واعتبار ذلك من القراءات المأثورة. كل ذلك لغياب
نظرية اسلامية أصيلة معاصرة في الدولة والمجتمع، تضع الجهاد والتقوى والجدال بالتي
هي أحسن في مكانها الصحيح.
إن هذا الخلط وغموض الفهم، بوجود عاطفة دينية صادقة جياشة،
وبوجود حب حقيقي لله ولرسوله ولكتابه، يمكنه أن يؤدي الى أعمال عنف مسلح...
السبب الثاني: سبب سياسي بحت. فالعالم العربي والإسلامي يعج
بحكومات مستبدة، تشعر في أعماقها أن شرعيتها ناقصة ومهزوزة، وتلتمس دعم السلطة
الدينية الرسمية. فكان من الطبيعي أن تقاوم محاولات الحركات التي تسعى الى سحب
السلطة السياسية منها، فيقع العنف... فطالما أن هناك فقر وبطالة وسوء توزيع للثروة
وامتيازات تمنح بلا حساب لطبقة دون أخرى... فالعنف لن ينتهي، ماركسية كانت أم
اسلامية أم غير ذلك.
السبب الثالث: فشل حركات التحديث المعاصرة في ضوء ما أظهرته
نتائج حرب 1967، ووقوع المسلمين والعرب في فراغ فكري وثقافي ووطني، فجاءت الحركات
الاسلامية لتملأ هذا الفراغ. لكنها ملأته بخبرات زائلة تاريخية، أبدعها أصحابها
لزمنهم في زمنهم، فرسخت بذلك أخطر ما يمكن أن يترسخ في العقل العربي، وهو
الماضوية، وساعدتها المؤسسات الدينية الرسمية على ترسيخ هذه الماضوية في العقل
العربي حتى الآن. واستعمل العنف لترسيخ هذه الماضوية على أنها جهاد ديني.
ثم يضيف الدكتور محمد شحرور قائلا: وما أريد قوله هو أن عملية
أسلمة الواقع عملية سوسيولوجية بحتة، تخضع لقوانين علم الاجتماع. فالمجتمع المتحضر
ينتج اسلاما متحضرا والمجتمع البدوي ينتج اسلاما بدويا. ولعل أسوأ ما أنتجناه نحن،
هو حركات اسلامية سياسية تحاول أن تشد المجتمعات العربية الاسلامية بالعنف والقهر
إلى الخلف تحت شعار تطبيق الشريعة الاسلامية...
ثم يخلص الى القول: أما إذا فهمنا الشريعة الاسلامية هي آيات
الأحكام الواردة في التنزيل الحكيم، وهي السنة النبوية على أنها الاحتمال الأول
التاريخي لتطبيق هذه الأحكام ضمن مجال حيوي زماني (تاريخي) ومكاني (جغرافي)،
فنقول: لا تعارض مع التعددية ولا تناقض مع المجتمع المدني. انما يبقى علينا أن نشمر
عن سواعد عقولنا المؤمنة لانتاج فقه جديد قائم على أدلة وأصول جديدة، تحوي في
طياتها ما لا يتعارض مع المجتمع المدني ولا يتناقض مع التعددية، ويتوافق ويوافق
على وجود الآخر والرأي الآخر في ظل البرلمانات والانتخابات والاستفتاء. يبقى علينا
في زمننا أن نقوم بما قام به الأسلاف في زمنهم، حين قرأوا آيات الأحكام والسنة
النبوية قراءة أولى جاءت مطابقة لواقعهم مناسبة لعصرهم، فنقرأ الآيات والسنة قراءة
ثانية تعطينا أصولا جديدة للفقه والتشريع...
(islam21.net).
أما الأستاذ أحميدة النيفر، وهو أستاذ التعليم العالي في
جامعة الزيتونة فيرى ما يلي: ما تثبته المرحلة الحديثة والمعاصرة في العالم العربي
الاسلامي أن فجوة هائلة أصبحت تفصل فكر النخب المختلفة عن عموم مجتمعاتها بما أفضى
في أكثر من قضية الى نوع من الفصام الذي يدفع المجتمعات الى مبادرات عملية حاسمة
لا صلة لها بتوجه رجال النخبة الذين فقدوا وحدتهم وجانبا مهما من فاعليتهم.
ويضيف قائلا: من هنا نقف على جانب مهم من أسباب العنف المدمر
لحاضر العالم العربي والإسلامي ومستقبله والذي كثيرا ما يظن أنه كان رديفا للاسلام
ولمبدأ الجهاد في حين أنه افراز لرفض النخب أو عجزها عن ايجاد ساحة تواصل مع
المجتمع وماضيه ومشاغله.
ثم يزيد: ما تؤكده نظرة تاريخية فاحصة هو أن العنف المستفحل
يستمد شراسته من جملة من المصادر هي في القسم الأهم منها حديثة وتحمل الجانب
الأوفر من مسؤولياته النخبُ المتعالية على مجتمعاتها والمتشبثة بإيديولوجيات
وحتميات راسخة.
ويضيف: هذه النخب العربية، مثقفة وحاكمة أو معارضة هي التي
شرعت للعنف قبل أحداث أيلول 2001 بعدة عقود. لقد تصدت أولا تلك النخب الى الفجوة
الهائلة التي تفصلها عن مجتمعاتها بمقولة استئصال التراث لكونه السبيل الوحيد
لتحرير الجماهير. عندئذ أصبح للعنف معنى تاريخي يبيح استعماله ضد الشعوب ذاتها على
اعتبار أن من "الممكن أن يكون أصحاب المصلحة في التغيير أكبر عائق
أمامه"، (على ما يقول الماركسيون– الإضافة لنا).
ثم يضيف الأستاذ متحدثا عن ضرورة وجود العالم الذي يعرف قضايا
وحاجات شعبه المختلفة كمعرفته بالقضايا الفكرية والنظرية، إلى أن يقول: تنامي تيار
العولمة في القرن الحادي والعشرين تخطى وسائل الاتصال والمعلومات وحركة الأموال
والبضائع في العالم ليبلغ ما هو أخطر: الغاء "الجغرافيا الثقافية
والسياسية" . لقد غدت مباشرة المشاغل الكبرى للمجتمعات ذات طابع عالمي تخترق
خصوصية الأقطار والمجتمعات والأعراف. مثل هذا السقوط للحواجز هو الذي قوى من عضد
الحركات الاحيائية الجهادية بين المسلمين اذ بدا أن لا معنى لأي تجزئة سواء أكانت
قطرية سياسية أم مجتمعية مؤسساتية أم فكرية تاريخية.
ويخلص إلى القول: ذلك هو أحد أهم تحديات المستقبل: قضية
العالم المدرك لأرث النبوة، التي تعي في جانبها البشري وعيا روحيا يتحقق في واقع
الناس بقدر اعتبار الشروط الموضوعية لذلك الواقع، أو بحسب عبارة محمد اقبال:
"الوعي النبوي روحي ووضعي في الآن نفسه"، (الحياة 9 – 6 – 2007). (دعونا
نتذكر "غرامشي" عندما يتحدث عن المثقف العضوي الذي نفتقر اليه في
مجتمعاتنا كما نفتقر الى الوعي الذي تحدث عنه محمد اقبال رحمه الله) (الإضافة لنا).
وحول المراجعات التي حصلت عند الحركة الجهادية المصرية، يقول
كمال السعيد حبيب، وكان أحد القادة المؤسسين: 1- ... فالتكليف يكون بما يطاق وخاصة
في أمور المجتمع والسياسة. 2- ... مسائل الاصلاح والتغيير هي من المسائل المتغيرة
التي يمثل الاجتهاد أداتها الأساسية (ليست مسألة اعتقادية). 3– الانتباه إلى أن
القوة العسكرية لا تنجز وحدها أمر المواجهة، فهناك جوانب دعوية مهمة أخرى، وأدوات
مثل النصح والنقد والمراجعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... 4– عزل الحركة
الاسلامية عن مجتمعها، بحيث جعلت لنفسها مجتمعا موازيا، ونصبت من نفسها فرقة أو
طائفة تقوم هي بالتغيير عن مجتمعها... 5- الانتهاء إلى فشل التنظيمات السرية؛
لأنها تأخذ الحركة الى مجاهل السرية، وحصر العلاقة بينها وبين مجتمعها في العلاقة
الأمنية الضيقة التي تجعلها محاصرة بالمرشدين والسجون والملاحقة والاختفاء ...
(موقع المختصر للأخبار).
أما نحن فنقول أن هذا النمط من الحركات لا تختص به مجتمعاتنا
العربية والإسلامية، بل إن الكثير من المجتمعات التي تتميز بالحراك الاجتماعي نجد
فيها مثل هذه الحركات "الجهادية". أما الاسم "جهادية " فهو
مستعار من تاريخنا كما وأنه يعود إلى الانتماء (الإيديولوجي) لهذه الحركات. وأؤكد
أنني استعرت لفظ ايديولوجي لأنه يشير الى ان هذه الحركات تحمل من الأوهام بقدر ما
تحمله من المعرفة. فجميع الحركات "اليسارية" (وهي الحركات التي عاشت على
تخوم الأحزاب الشيوعية في أوروبا، وقد ميزوها في كتاباتهم باليسارية لأنها تحمل
صفات معينة، لا تشترك فيها مع الأحزاب. أود القول علينا عدم فهمها كما هي مستعملة
اليوم) كانت تنهج نهجا عنفيا لأسباب عديدة سوف ناتي الى ذكرها. وقد كان فلاديمير
ايليتش لينين يسميها "مرض الطفولة اليسارية". وقد خاض هو وحزبه الكثير
من المعارك ضد هذه الحركات، إن على الصعيد النظري أو خلافه.
1 – الوهم بأن امتلاكهم للحقيقة يفرض على المجتمع الالتزام بها.
علينا الاشارة أن توهمهم امتلاك الحقيقة لا يلزم المجتمع بذلك، كما وأنه لا يعني
مطلقا أنهم يملكون الحقيقة فعلا. فالناس عليها ان تمتلك الحقيقة حتى تبادر الى
العمل التغييري المتلائم مع الحقيقة كما وعوها. للاشارة فقط: أن النبي صلى الله
عليه وسلم عندما استبدل المدينة بمكة "لم يكن في المدينة بيت الا وتقام به
صلاة" اشارة الى انتشار الدعوة الاسلامية بين أوساط الناس والتزامهم بها.
2 – إن التربية التي يمارسونها تجعلهم ينفصلون عن المجتمع. علما
أنه من يريد أن يمارس التغيير (والتغيير عادة يكون لصالح الناس، أو باللغة
الاسلامية يكون التغيير لسعادة الانسان في الحال والمآل، طاعة لله وفي سبيله) عليه
أن يلتصق بالناس لأنهم هم جند التغيير الذي يكون لصالحهم.
3 – الالتزام العقائدي الشديد يجعل المنتمي لهذه الجماعات متعلقا
بالآخرة بشكل يجعله يستسهل كل التضحيات أمام تحقيق الأهداف التي يعمل من أجلها.
سيما أن احدى الحسنين حاضرة وباستمرار: النصر أو الشهادة: وكلتاهما فوز كبير فمم
الخوف اذن؟
4 – من هنا ينتج ما يسمى في العمل الثوري اختصار المراحل أو حرق
المراحل. أي كأن نتوهم امكاناتنا على بناء مجتمع اسلامي حتى من دون موافقة الناس
على مثل هذا المجتمع. وهذا يعود إلى الجهل بالسنن الالهية بالتغيير. فالله تبارك
وتعالى قد جعل سننا وقوانين تحكم جميع المجتمعات علينا معرفتها ودراستها حتى نتمكن
من التغيير بالشكل الذي يرضي الله ورسوله ويكون فيه مصلحة لجميع الناس. لا بأس من
أن نستذكر هنا صلح الحديبية وكيف استنكره الكثير من الصحابة الكرام، لأنهم اعتبروا
فيه تنازلا من الرسول الكريم أمام كفار قريش. وقد خالف الكثير منهم أمر الرسول
عندما أمرهم بالحلق الى ان حلق هو أمامهم.
5 – وأهم العوامل على الاطلاق هو الانفصال الحقيقي بين قيادة
العمل الاسلامي والعاملين الفعليين. فالقيادة تحشو عقول المحازبين بالأفكار
والأوهام ومن ثم تتنكر هي لها. من هنا نرى استسهال الانفصال عن القيادة والاتجاه
نحو إنتاج قيادات خاصة بهم لا تتمتع بسعة العلم انما تتميز بالايمان الشديد وحب
التضحية مما يجعلها تتوهم بسهولة التغيير. وأهم هذه الأوهام امكانية التغيير
بالعنف بغفلة عن الناس والمجتمع.
6 – الناس التي تعيش الواقع التعيس تسبق قيادتها باستمرار وفي
جميع المجتمعات. من هنا فان القيادة الواعية هي التي تحس نبض الناس وبشكل يومي.
وخلاف ذلك يؤدي الى انفصال القيادة عن الجماهير. (ألم يبعث عمر بن الخطاب أحد
جنوده ليحرق باب بيت عمرو بن العاص لأنه يغلقه أمام الناس، ولا يعمل على حل
مظالمهم).
7 – كما وأن السلطات التي تتعامل مع مشكلة سياسية تعاملا أمنيا
يؤدي الى انعكاسات سيئة. فبدلا من الاتجاه نحو ايجاد حلول معينة لما يعانيه
المواطن سواء على الصعيد الاجتماعي أو على الصعيد السياسي، نرى السلطات تزج الشباب
في السجون من دون أن تكلف نفسها عناء القيام بواجبها من تأمين الحياة المستقرة
لآلاف الشباب العاطلين عن العمل، أو التفتيش عن الأسباب التي تودي بهذا الشباب الى
ممارسة العنف.
8 – أنا لا أريد أن أحمل من يريد أن يقوم بالتغيير لما فيه مصلحة
الناس مسؤولية تردي الأوضاع الذي وصلنا إليه في كل البقاع. انما التحليل لا يرحم
خاصة اذا كانت الغاية الاصلاح لما فيه خير مجتمعاتنا ومجاهديه وناسه جميعا.
وأخيرا ليس وهما ضرورة محاربة المحتلين لأرضنا سواء كانوا
صهاينة أم أمريكان ولكن علينا بالمقابل أن لا ندع قعقعة السلاح تعمي أبصارنا وبصيرتنا
عن الواقع الفعلي الذي نعيشه. فالانتحار ليس بطولة انما هو راحة من خوض معارك ربما
تكون أشرس من جميع ما نراه اليوم. فالأعداء لا يتعبون من استحداث الأسلحة التي
تجعلهم يطمئنون الى أنها تؤذي المسلمين وحلفاءهم من الشعوب المستضعفة. لذلك علينا
أن نقوي ايماننا بنصر الله لنا وأن لا نتوهم أنه بامكاننا تجاوز الناس والعمل من
أجلهم. أليس من المعيب أن يقول ممثل "فتح الاسلام" أنه جر الى معركة مع
الجيش اللبناني من دون معرفة الكيفية. ولماذا استمر بها؟ خوفا من السجن؟ أليس
السجن أرحم من تهجير عشرات الآلاف من "بيوتهم" أماكن لجوئهم. أليس السجن
أهون من قتل عشرات الجنود من الجيش اللبناني الذي لا تزال قيادته حتى اللحظة تقول
أن معركتها هي مع الاسرائيلي وليس مع الفلسطيني أو السوري أو المقاوم الذي يوجه
سلاحه الى صدور الصهاينة؟
ولماذا لا يموت ابن "فتح الإسلام" أمام الصهاينة
وليس أمام الجيش؟
إن الوصول إلى هذا النمط من الممارسات يتحمل مسؤوليته بالدرجة
الأولى أولئك الذين أوهموا الناس أن بامكانهم قيادة الناس لما فيه خلاصهم ثم تخلوا
عن مسؤولياتهم. نتيجة لذلك يصبح المجتمع حقل تجارب يدفع خيرة الناس أرواحهم افتداء
لمن تخلوا عن مسؤولياتهم بعد أن أوهموا الناس بضرورة العمل من أجل التغيير وراحوا
يتفرجون على هذا الحراك الاجتماعي ولكن بعد أن انفصلوا عنه.
وفي النهاية علينا عدم التوهم انه اذا قضي على "فتح
الاسلام" في حال قضي عليها، أن المجتمع لن ينتج ظواهر مشابهة. بالطبع نعم،
فما دامت اسرائيل تحتل فلسطين، وما دامت الولايات المتحدة الأمريكية تحتل العراق،
وما دام الظلم قائما، سوف يستمر توالد وإنتاج مثل هذه الظواهر العائد الى السنن
الالهية التي تحكم الحراك الاجتماعي. وهذه السنن تكون عادة ثابتة: "ولن تجد
لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا". والإنسان الذي يريد العمل على
تغيير المجتمع ما عليه الا اكتشاف هذه السنن ومن ثم العمل من ضمن آلياتها حتى يصل
الى مبتغاه في التغيير. والنجاح في التغيير ليس مرهونا بحسن نية العاملين، إنما
باكتشاف السنن والعمل بمقتضاها. ولا ضرورة للإشارة أن الإنسان المؤمن يعلم حق
العلم أن النصر والتوفيق هو من عند الله لأن المؤمن يعمل لمرضاة الله. وأما
الآخرون فالنصر يكون بمدى التزامهم بضرورات النجاح التي جعلها الله في القوانين
الاجتماعية.
لا يمكنني التوهم أنني قد أعطيت الموضوع حقه من الدراسة. ولكن
التقصير من صفات العبد، وأنا من عباد الله والحمد لله رب العالمين.
حسن ملاط
العرب والعولمة العدد 40 تموز 2007 يوليو
مرسلة
بواسطة فكر وتربية في 12:42 م
التسميات: سياسة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق